الفصل ١١: المنسي
فوق أرضٍ حجريةٍ باردة، استفاق “لين”.
كلُّ نفسٍ يسحبه كان كمن يحاول الشرب من رماد. الزفير تحوّل إلى ضبابٍ باهت، يتبدد في هواءٍ
خانق… هواءٍ لا يحمل حياة، بل ظلالًا تزحف.
لا جدران.
لا سماء.
مجرد فراغٍ أسود يمتد بلا حدود، كأن الكون اختُزل إلى لحظة نسيان.
وفي قلب هذا الفراغ…
نقطة ضوءٍ واحدةٌ باهتة، تنبض من كائنٍ واحد.
رجلٌ جلس فوق عرشٍ حجري. لم يتحرك. لم يتنفس.
شعره الأسود انساب كنهرٍ من ليلٍ كثيف، وعيناه الحمراوان تشعّان بجمودٍ مطلق، مثل قمرين مسجونين في ليلٍ لا فجر له.
الهالة من حوله لم تكن مجرد طاقة… بل كائناتٌ تتلوى وتهمس، تلتهم الضوء وتُبقي على الظلمة فقط.
وجوده وحده… جعل الهواء ثقيلاً.
الزمن أبطأ.
قلب “لين” اختنق، كأن نبضاته تحوّلت إلى صرخاتٍ مكتومة.
تشنج جسده، عظامه ارتجفت، وانبعث من فمه صوتٌ مخنوق:
“!… أرجوك… فقط دعني أرحل… أنا لم أفعل شيئًا”
ارتدّ صوته في الفراغ، مكسورًا، كأن طفلًا يهمس في قبر حاكم.
الكائن لم يتحرك. لم يُجب.
لم يكن بحاجة لذلك.
تكلم الظلام نيابةً عنه.
وهمس الجحيم باسمه.
بقي صامتًا، لكنه لم يكن غائبًا. عيناه اخترقتا “لين” كما لو كانتا تبحثان في داخله، تكشفانه طبقةً طبقة.
الخوف.
الذنب.
الشك.
كلُّ ما أخفاه “لين” طوال حياته… كان مكشوفًا الآن.
ثم جاء الصوت.
أجوف، بعيد. كأنه تردُّد من فجوةٍ لا زمن فيها:
“.لقد دُمّر النظام”
اهتزّ الفراغ.
ثم تبعها صوتٌ هادئ:
“.وأنا… من أوقف لعنة المهول لبعض الوقت فقط”
دون أن يتحرك، اختفت المسافة بينه وبين “لين”.
فجأةً، أصبح أمامه.
عيناه قريبتان لدرجة أن “لين” شعر بأنهما تلتهمانه حيًّا.
شهق، أنفاسه مقطوعة، كلماته تعلّقت في حلقه كأشواك:
“م- من أنت؟”
ابتسامةٌ باهتة ارتسمت على وجه الكائن.
لم تكن دافئة. لم تكن بشرية.
“أنت… ما زلت غير مؤهل بعد، جين.”
“لكن يمكنك أن تناديني بـ المنسي.”
تجمّد “لين”.
“ج… جين؟
“!كيف عرفت اسمي؟”
الصوت عاد دون حركة شفاه، يرنُّ داخل جمجمته:
“.أنا أعرفك أكثر مما تعرف نفسك”
—
استفاق “لين” فجأةً، كمن خرج من كابوس… أو من لعنة.
كان ممددًا على أرض زنزانة الصقيع، جلده ملتصق بالحجر البارد، والهواء ساكنٌ ومميت، لا يحمل سوى همسات الجليد.
عرقٌ بارد يغمره، ودماءٌ سوداء تجمّدت جزئيًا على ثيابه وجلده.
رائحتها كرمادٍ محترق.
قلبه ينبض بجنون، صدره يعلو ويهبط كأنما نجا من الغرق في بحرٍ من الثلج.
حين حاول الوقوف، شعر وكأن الزمن تحطّم من حوله.
هل مرّت دقائق؟ أم سنوات؟ لم يعرف.
كلُّ شيءٍ داخل الزنزانة يبتلع المفهوم ذاته للوقت.
نظر إلى انعكاسه في الجليد.
كان وجهه… غريبًا.
شعره المتسخ بدا كأنه جزءٌ من المكان، طويلا، مشعثًا، كأن الزمن نفسه قد انماه.
ثم… نظر في عينيه.
العينان اللتان كانتا تحملان نورًا خافتًا ذات يوم، خمدتا الآن.
صارتا عميقتين، ساكنتين، كأنهما ابتلعتا كل ضوءٍ فيهما.
وقع أرضًا، يحدّق في اللاشيء.
لم يعد يرى “لين”…
بل شيئًا آخر يتكوّن.
حتى البكاء لم يعد ممكنًا.
لقد صار فارغًا.
تمتم أخيرًا، بصوتٍ خافت:
“أيها النظام…”
لكن النظام لم يُجب.
حينها فقط، فهم.
كلمات “المنسي” لم تكن مجرد نبوءة. كانت الحقيقة.
كل تلك الطاعة، المهام، الأوامر… انتهت إلى لا شيء.
شعر بلحظة راحةٍ مريرة.
لقد تخلّص أخيرًا من النظام الطفيلي.
لكن فكرةً واحدة بقيت تنهش عقله:
“حتى النظام… لم يستطع إنقاذي من تلك اللعنة.”
—
زحف نحو باب الزنزانة.
رغم الجثث المجمدة، لم تكن هناك جثته.
لقد عاد من الجحيم نفسه.
طرق الباب ببطء.
فُتح…
وكانت “أم كاميليا” و”كاميليا” بانتظاره.
ركضت إليه الأم، ضمّته بقوة، تبكي وتقول:
“ابني… ماذا حصل لك؟!”
وسألت كاميليا، بقلقٍ يملأ صوتها:
“ماذا فعلت لتُغضب البطريكة؟!”
لكنه لم يكن يسمع.
كان غارقًا في متاهةٍ لا صوت فيها إلا صوت “المنسي”.
وفي الطرف الآخر… وقفت “فروسيتا”.
عيناها تشي بالحزن.
رؤيتها له – بثيابه الممزقة، وجسده المغطى بالدماء السوداء – كسرت شيئًا في داخلها.
أرادت أن تحتضنه.
لكنها… تراجعت.
—
ظهر الحارس، بصوته الجاف:
“حان وقت مقابلتك للبطريكة.”
قال “لين”:
“سأذهب لتغيير ملابسي أولًا.”
—
أمام غرفة البطريكة.
انحنى “لين” باحترام، جسده منحنٍ، لكن عينيه ثابتتان.
قالت البطريكة، بصوتها الرزين:
“كيف كانت الزنزانة؟”
صمت.
تابعت بابتسامةٍ هادئة:
“يبدو أن شكلك قد تغيّر… تبدو أوسم الآن، لكن هناك هالةً غريبة تنبعث منك.”
“لقد كان درسًا صغيرًا… لتتعلّم.”
اقتربت منه خطوة، ثم قالت:
“ما المكافأة التي تريدها يا لين؟”
قال بعد لحظة صمت:
“أريد إذنًا بدخول المكتبة الخاصة بالعائلة.”
رفعت حاجبها، ثم قالت:
“حسنًا.”
ثم تابعت، بنبرةٍ هادئة لكن تحمل أمرًا لا يُرد:
“أعدّ نفسك لعقد الفروسية الخاص بابنتي.”
حدّق “لين” فيها للحظة، ثم قال:
“أعتقد أنني لست مؤهلًا بعد… لأكون الفارس الخاص بالسيدة فروسيتا.”
توقفت ابتسامتها.
“ألست أنت من فاز بالبطولة؟
كنت أراقب تدريباتك طوال الشهر، وأعلم أنك أقوى من لونا.
أنا أستشعر مانا هائلة منك، يا لين.”
ردّ “لين” بهدوء:
“أعطني بعض الوقت.
بعد أن أنهي رحلتي الاستكشافية، سأعود وأقوم بالعهد.
حتى أُظهر ما يُثبت جدارتي… وحتى لا يُثير الأمر القلق داخل العائلة.”
رفعت البطريكة حاجبها من جديد، وقالت:
“وهل يجرؤ أحد على الاعتراض على أمري؟”
أجاب “لين” بثقةٍ ثابتة:
“بالطبع لا، سيدتي.
كلامك أوامر مطلقة.
لكنني فقط أرغب في تحسين سمعتي، حتى لا يجرؤ أحد على الحديث خلف ظهر سيدتي.
ولأستحق أن أكون فارسها بحق.”
صمتت البطريكة لوهلة، ثم قالت:
“حسنًا… يمكنك الذهاب.”
ثم أضافت، بصوتٍ صارم:
“وأمرٌ آخر…
ابتعد عن ذلكما القذرين.”
انحنى “لين”، وقال:
“عُلم، سيدتي.”
ثم استدار مغادرًا، قائلاً بهدوء:
“سأستأذن الآن… للذهاب إلى المكتبة.”
MANGA DISCUSSION