الفصل 12: هاوية الجليد الأبدي
لم يكن لين قد بلغ عتبة الباب بعد، حتى صدح صوت البطريكة بنبرة باردة كجليدها:
“أتنتظر؟”
توقف في مكانه.
ثم وجهت كلامها لإحدى الفتيات الواقفات كتماثيل صامتة:
“إيسلين. اصطحبيه إلى المكتبة. ستكونين مسؤولة عنه.”
خرج لين بهدوء. خطواته خافتة، كمن يمشي فوق ثلج هش. لكن صوته الداخلي لم يصمت:
“المكتبة؟… خطة واضحة. تقييدي، مراقبتي، وضع فروسيتا على رأسي كقيود ناعمة. لكن الأمور… لن تسير كما تهوى هي.”
التفت إلى الفتاة التي كُلّفت به. كانت تحدق فيه دون تعبير.
“إيسلين، خذيني إلى المكتبة.”
“كما تشاء، سيد لين.”
وقفت عند المدخل، تحدثت مع الحارس، ثم التفتت إليه بابتسامة باهتة:
“سأنتظرك في الخارج.”
دخل وحده.
ثم توقف.
كأن الزمن تجمد.
أمام عينيه امتد عالم من الرفوف المتشابكة، كأعصاب حية. سلالم لولبية ترتفع إلى العدم، كأنها تؤدي للسماء. كتب مكدسة بلا ترتيب، الغبار يرقص فوقها، لكنه لم يكن غبارًا… بل شيء يشبه المانا النائمة.
أحس ببرودة تسري في عموده الفقري.
وفجأة…
لمسة خفيفة على كتفه.
استدار بغريزة النجاة.
ووجدها.
فتاة… تبتسم.
في عائلة لا تعرف الابتسامة.
“ما الذي أتى بك إلى هنا، أيها الوسيم؟”
قالتها بنبرة لعوبة، لكن عينيها كانتا أكثر فطنة من اللازم.
تراجع خطوة.
ابتسامتها لم تتغير. اقتربت ولمست خده.
“هذا إذًا هو الشاب الذي فاز ببطولة العائلة وسحر أختي؟”
تأملها جيدًا… شعر أبيض مثل الثلج، عينان لونهما بحر متجمد… لكن فيهما دفء غريب.
“من أنتِ؟” سأل بهدوء.
“سيلفيريا فروست.”
“أخت فروسيتا.”
اسمه ارتدده داخله كجرس إنذار.
“ولمَ كل هذه الرهبة؟” قالتها بضحكة خفيفة، كأنها تعرف أكثر مما تُظهر.
ثم صمتت، ونظرت إلى الرفوف:
“أي نوع من الكتب تبحث عنه؟”
“دلّيني على الأقسام أولاً.”
تحولت نبرتها فجأة، واكتسبت وزنًا غامضًا:
“على يمينك: سحر العناصر—نار، ريح، ماء، جليد… لكن احترس، فإتقانها مرهون ببركتك.”
أشارت إلى رفٍ آخر:
“لعنات. بعضها حي. لا تقرأ بصوت مرتفع. صفحاتها تنبض إن اقتربت منها أكثر مما يجب.”
مرت يدها على الكتب بلطف، فانبعث ضباب سحري خافت.
ثم واصلت:
“هذا… تاريخ العالم. من نشأة القارات إلى سقوط السلالات. هنا تُكتب الحروب التي لم يُرد أحد أن تُروى.”
توقفت أمام رف وحيد، كأن الزمن عنده يتباطأ.
“السحر المتقدم. تشكيل المانا، التعاويذ المتصلة بالروح، وتلك التي تُكتب لا بالحبر… بل بالذاكرة.”
نظر إليها لين وسأل:
“هل قرأتِ كل هذا سيدة سيلفيريا؟”
“يمكنك مناداتي بسيلفيريا فقط.”
” كما انني قرأت البعض.”
سألها: “هل تعرفين شيئًا عن عشيرة قديمة تدعى نوكتارين؟”
نظرت سيلفيريا إليه بنظرة فاحصة.
“لا توجد أي عشيرة قديمة بهذا الاسم.”
استأذن منها، واتجه للبحث.
أي شيء… أي سطر… عن “نوكتارين”.
لم يجد.
قرأ ليلًا، وتدرّب نهارًا.
أيامه بدأت تشبه الصفحات… تتكرر بلا عنوان.
وحين سأل عن لونا وفروسيتا، أخبروه أنهن في الأكاديمية.
اختفوا من يومها.
وصار روتينه يتكوّن من ثلاث كلمات: كتب، مانا، وتدريب.
وكأن وقت الراحة يدردش مع سيلفيريا.
وفي إحدى الليالي، وبينما كان يتأمل رف الممنوعات من بعيد…
سمع صوتًا.
“يا هذا.
أعلم أنك تسمعني.”
وجد كتابًا يتحدث.
مغطى بطبقة من الجليد الأسود، والعنوان محفور لا بحروف… بل بنبض، كأن الكتاب نفسه ينبض بالحياة.
اقترب منه لين بحذر، يداه مترددة في اللمس، وكأنها تشعر بوجود شيء غريب خلف هذا الكتاب، شيء يفوق مجرد الورق والغلاف.
قبل أن يلمسه، سمع همسة خافتة، غريبة، غامضة. لم يعرف إن كانت في أذنه… أو في قلبه:
“أنت… حررني، وسأساعدك.”
كانت الكلمات تترنح في ذهنه، كأنها تلتف حوله مثل سلاسل غير مرئية.
“أنا لدي معرفة ضخمة جدًا.”
أضاف الصوت، وكأن الكلمات نفسها تتسرب عبر الفجوات بين طبقات الزمن.
توقف لين في مكانه، قلبه ينبض بشدة، وشعور غريب يتسرب إلى جسده. كانت الهمسات تعني أكثر مما يبدو للوهلة الأولى. كان الكتاب يعده بشيء لا يستطيع تصوره، لكن كان في داخله شعور قوي أن هذه المعرفة… قد تكلفه أكثر مما يعتقد.
“من أنت؟”
سأل بصوت منخفض، لكنه في قلبه كان يشعر بثقل السؤال.
“أنا سجين هنا.”
أجاب الصوت، وكأنه يعكس الألم من أعماق الكتاب.
“أنا مجرد روح تبحث عن المعرفة.”
“إذا حرّرتني، يمكنني أن أفيدك كما تعلم. أنا لدي معرفة.”
حسنًا، هل تعرف أي شيء عن نوكتارين؟ سأل لين.
أجاب الكتاب، لكن بصوت متلعثم.
لكن لين لم يجد شيئًا مفيدًا.
تركه لين ورحل.
“تبا. كتاب يتحدث، كما أنه يحاول خداعي.”
“لن أمسه.”
“ليس لي فضول بأن ألمس أشياء غريبة.”
“هذا سيكون تصرف أحمق.”
وجلس يبحث عن أي شيء يتعلق بعشيرة نوكتارين، لكنه لم يجد شيئًا.
بعد الفحص لمدة أيام، تبين عدم وجود شيء.
جلس يبحث عن خرائط للمنطقة التي سيذهبون إليها.
استسلم لين وبدأ في تعلم بعض أساسيات السحر. كما كان يحاول تنفس المانا أينما ذهب.
كما أنه كان يحافظ على تدريباته.
ومع مرور الوقت، لم يستطع أن يرى لونا أو إيان أو فروسيتا ، حتي كاميليا و امها ذهبوا مع فروسيتا للاعتناء بها. سمع أنهم ذهبوا إلى الأكاديمية.
كان روتين لين يتلخص في التدرب، قراءة الكتب، والتحدث مع سيلفيريا.
كان قد اتي اليوم الموعود .
للذهاب لرحلة الاستكشافية.
دخل لين إلى القاعة، فوجد المشرفة وإسلين في انتظاره.
“شكرًا لك لإنقاذ لونا”، قالت المشرفة بابتسامة باهتة.
لعن لين في نفسه، متمتمًا:
“كان أسوأ قرار اتخذته في حياتي.”
انا لن انقذ أحدا مجددا.
كان لين قد حضر شنطة من الطعام و اخذ كتابا من المكتبة بحجة الاستعارة.
وجهز بعض الخناجر.
وانطلقوا.
كان لين يفكر كيف سيهرب منهم.
دعنا من هذا عندما نصل سأضع خطة.
الطريق الجليدي امتدّ كوشاح أبيض نقي، يلمع تحت ضوء الشمس الباهت كأنه مرصوف بالكريستال. خطوات الخيول فوقه كانت تُحدث صريرًا ناعمًا، كأنها تعزف موسيقى الشتاء. على جانبيه، ارتفعت أشجار الصنوبر شاهقة، جذوعها مغطاة بطبقات سميكة من الجليد، وأغصانها المثقلة بالثلج تدلّت برقة كأنها تنحني احترامًا للمارة. كانت أوراقها الإبرية تحتفظ بلونها الأخضر القاتم، لكنها تلتمع تحت أشعة الضوء كما لو أن الطبيعة وضعت فوقها مساحيق من الفضة.
الغابة كانت هادئة، إلا من صوت الريح وهي تمرّ بين الأشجار، محمّلة برائحة باردة، نقية، تشبه أول نفس بعد سقوط الثلج.
وبين الأشجار، ظهرت بحيرات صغيرة متجمّدة، سطحها أملس كالمرآة، يعكس زرقة السماء وألوان الغروب الباهتة. في بعض الأماكن، كان الجليد شفافًا لدرجة أن الصخور والنباتات الميتة في الأعماق كانت تُرى كأشباح نائمة.
أما الجبال في الأفق، فكانت تقف شامخة كحراس قدامى. قممها مغطاة بالثلوج، وحوافها تنحتها الرياح بعناية، فتبدو كمنحوتات من الجليد الخالص. الضباب كان ينساب بين السفوح، يُخفي أجزاءً ويُظهر أخرى، ما أضفى عليها هالة من الغموض والجمال القاسي.
كان كل شيء يهمس بلغة الجليد: صامتة، لكن مؤثرة، تلامس القلب دون كلمات.
من كثرة الجمال الخلاب.
كان لين قد نام.
حين اخترقت العربة الغابة النقية، تبدّل الهواء من بارد إلى خانق.
ثم، دون إنذار،
تشقّقت السماء.
استيقظ لين من الصوت.
كانت الشقوق هادئة، غير مرئية تقريبًا، كأنها نحت خفيّ في السماء.
لكن من داخلها، انبثقت دوامة جليدية… لا، هاوية معلّقة في السماء.
قالت إسلين بصوت ميت:
– “لا… تلك ليست فتحة …..إنها هاوية فلنهرب.
قبل أن يتمكن أحد من الهرب، انفجرت الجاذبية.
العربة، الأفراد، كل شيء…
سُحب إلى الداخل.
سقطوا…
لا، بل انزلقوا داخل صمتٍ أزلي.
استفاق الجميع مذعورين، ما عدا لين الذي ظل غارقًا في اللاوعي.
اقتربت منه المشرفة، هزته برفق حتى فتح عينيه، ثم همست:
“فلتستيقظ… يجب علينا ان نتحرك من هنا.”
حدّق لين بعينيها المشتعلتين للحظة، ثم نهض ببطء، وهو يتمتم:
“…هل هذا جحيم آخر؟”
مسح العرق البارد عن جبينه، زفر بعمق، وتمتم بمرارة:
حسنا.
توغل لين ورفاقه في الأعماق، مغيرًا خطته السابقة؛ فالتجوال بمفرده لم يعد خيارًا حكيمًا إن أراد النجاة.
كانت الأرض تحت أقدامهم بيضاء نقية، مكسوة بطبقاتٍ من الجليد الشفاف، تعكس الأضواء الباهتة المتناثرة من بلوراتٍ جليدية نمت عشوائيًا من الصخور والهواء، كأنما تنبض بالحياة. الجبال أحاطت بالمكان كجدران صامتة، شاهقة ومهيبة، لتجعلهم كأنهم دخلوا إلى قلب كوكبٍ آخر… مكان ساحر وجميل بشكل يبعث على القشعريرة.
في غفلة، وفي لمحة سريعة، حدث ما لم يتوقّعه أحد.
ظهر الثعبان.
لم يكن زئيرًا ولا اهتزازًا ما أعلن عن وجوده… بل كان الاختفاء الفوري لإسلين، التي التهمها الثعبان في ومضة واحدة، دون صوت، دون مقاومة… اختفت كما تختفي نجمة شهاب في سماء مظلمة.
صرخة خافتة انطلقت من المشرفة، وهرعت نحو لين… لكن يدها لم تصل.
التهام مفاجئ، صامت، قاطع. اختفت في لمح البصر.
وحين التفت لين…
صمت مطبق.
لا صرخات. لا أنفاس. لا حتى نسمة هواء.
فقط يد بشرية مبتورة، ممددة على الأرض.
بُترت يدها قبل أن تتمكن من سحب لين للخلف.
وعندما التفت من جديد…
الصمت نفسه.
لا صرخات. لا أنفاس. لا حتى نسمة هواء.
فقط يد بشرية مبتورة، وحولها بقع دم داكنة تتّسع، كأن الأرض تنزف من هول ما جرى.
صمت المشهد كان يصرخ، والدماء المتمددة بدت كوشم شيطاني على الثلج.
تجمّد لين في مكانه، وعيناه تتسعان برعب لم يختبره من قبل.
لين تجمّد، عيناه تتسعان،
ثم وقع بصره على الكابوس
ثم وقع بصره على الكابوس—
ثعبان.
أبيض.
ذو عينين قرمزيتين،
أضخم من أن تُحيط به العين، أطول من ظلّ جبل،
ينساب بين الصخور كما لو أن الأرض نفسها تتنفس عبره.
جلده لم يكن كجلد مخلوق.
بل خامة زجاجية جليدية، شفافة جزئيًا،
تلمع تحت الضوء الباهت كأنها تصنع من الكريستال الحي،
لكنها تنزف برودةً تشق الهواء.
وعيناه…
ثنائية الكارثة.
تتوهج بلونٍ أحمر قانٍ،
ليس كاللهب، بل كدمٍ اشتعل فيه الغضب.
لم تكن لحيوان.
بل لشيءٍ أقدم من الزمن،
أهدأ من الموت،
وأقسى من الحياة.
المشرفة – رغم الألم الذي كان يمزق جسدها – أمسكت بـ لين بقوة، كأنها تتمسك بالحياة ذاتها. أطلقت سرعتها الخارقة، تنسج طريقها بين البلورات، بينما الثعبان ينزلق خلفها بصمتٍ مميت، كأن الموت نفسه يلاحقها.
صرخت به، وصوتها يرتجف بين الأنين والرجاء:
“إن خرجت… احمِ إيان… احمِ لونا… افعل ما لم أستطع فعله أنا!”
ثم، بكل ما تبقى فيها من قوة… رمته.
قذفته عبر الفراغ، بعيدًا، كأنها تقذف قلبها معه.
الثعبان كان يقترب، ببرودة لا ترحم، لكن عينيها لم تتركا لين.
ابتسمت.
ابتسامة وداع، ابتسامة ألم، ابتسامة أم تحتضن قدرها.
نظرت إليه، ودموعها تتساقط بصمت، وقالت بصوت خافت، مهزوز، كأن العالم كله ينهار من حولها:
“أنا آسفة يا لين… آسفة لأني كنت قاسية… آسفة لأني حمّلتك ما لا يُحتمل…”
وفي اللحظة التالية… ابتلعها الثعبان.
توقّف الزمن.
توقّف كل شيء.
حتى أنفاس لين… خانته.
تدحرج فوق الجليد، جسده يتألم وروحه تتمزق.
وحين تمكن من الوقوف… ركض.
ركض كأن الهروب سينقذه من الندم، من العجز، من الحقيقة.
ركض بلا وعي، بلا اتجاه، بلا أمل.
حتى وصل.
طريقٌ مسدود.
ممرٌ ضيقٌ مغلق.
لا مهرب. لا خلاص.
استدار ببطء…
وقلبه يخفق كأن الصمت نفسه سيصرخ.
كان الثعبان هناك.
واقفًا أمامه، شامخًا، أبديًا… كأنه قدر لا يمكن الهرب منه.
عيناه الحمراوان تتوهّجان وسط العتمة، لا تغضبان، لا ترحمان—بل تراقبان بصمتٍ ثقيل، كأن الزمن نفسه توقّف احترامًا لهيبته.
اهتزّ السيف في يد لين.
ركبتاه ارتجفتا، وفجأة… لم يعد يشعر بجسده.
كأن الصقيع لم يكتفِ بتجميد أطرافه، بل زحف إلى داخله—حتى عقله، حتى قلبه.
نبضه تباطأ، أنفاسه صارت أشباح هواء، والعالم حوله… تلاشى.
بلا صوت.
بلا لون.
بلا معنى.
ثم، بصمتٍ مطبق… سقط على ركبتيه.
حدّق في الأرض الجليدية، ولم يرَ الجليد.
بل رأى نفسه.
وجهه هناك—ممسوح، بلا ملامح. بلا هوية. كأنه لم يكن يومًا.
سقط السيف من يده، وانزلق على الجليد،
توقف أمامه بلمعانٍ باهت… كصدى نجمةٍ تموت.
وفي تلك اللحظة… انطفأ شيءٌ بداخله.
لم يكن خوفًا.
كان شيئًا أبرد. أعمق.
كأن روحه تمزقت بهدوء… دون صراخ.
كأن اليأس احتواه لا كوحش، بل كصديقٍ قديم… جاء ليأخذه إلى الراحة الأخيرة.
ما الهدف؟
ما الجدوى؟
تلك الأسئلة لم تُسأل بصوت… بل بنظرةٍ زجاجية، بعينين توقّفتا عن الانعكاس.
ثم انهمرت دموعه.
لم تكن دموع نجاة.
ولا حتى حزن.
بل دموع إنسانٍ سُلب منه حقّه في أن يكون إنسانًا.
همس، بصوتٍ مكسورٍ كحافة السيف: “أنا فقط… كنت أريد أن أعيش.”
توقّف، ابتلع أنفاسه المرتجفة، ثم أكمل:
“هل هذا كثير؟
هل هذا… خطأ؟”
رفع بصره إلى السماء الرمادية، كأنها تراقبه من علٍ بسخرية،
وهمس بنبرةٍ تكاد تنهار:
“ماذا يريد مني هذا العالم؟
كم مرة يجب أن أموت كي أرضيه؟
كم مرة… يجب أن أنكسر؟”
ثم، بصوتٍ مبحوح، كأنه يُزفّ من صدره لا من فمه، تمتم:
“أنا فقط…
أريد أن أعيش.”
MANGA DISCUSSION